[b]فاطمة[/b]

عدد الرسائل : 14 تاريخ التسجيل : 06/12/2007

فاطمة

إهداء: إلى تلك الرفقة التي كانت تنحت الأحلام بصدق
إلى كل أولئك الأصدقاء الخائنين الذين زرعواالأمل وانسحبوا بهدوء
إلى يوسف ورضوان وعبدرحمان وعبد الواحد ولحسن وعبد اللطيف وميلود ومصطفى وحديجة وعمر وفتيحة وحسناء ومرتابي وحاتم وإدريس والعناني...

القاعة مملوءة عن آخرها، لغط وهذر تكسره ضحكات صارخة، أو اندلاق كأس مملوءة عن آخرها على طاولة تغازل مزيدا من القنينات الفارغة، إلا من ثمالة عفا عنها شارب مهووس بمغازلة نديمته المتمنعة. وهي قابعة في ركن لا يصله الضوء، لاهية عن الضوضاء، تخبش بقلم قصير فوق الطاولة، تاركة كأسها النصف المملوء يغازل شفتيها. احترمت صمتها. راقبتها مدة ليست بالقصيرة. تم قررت أن أقطع حديثها الداخلي بعدما اكتشفت أن كل رواد المكان يتجنبنها. أقحمت شخصي بمد يدي، فرحبت بابتسامة يكتنفها الغموض. فاسترسلنا في الحديث، ربما مهنتها تتطلب كل هذا التماهي مع الوضع الذي حتم عليها شكل هذه الحياة.
لم تكن كسابقاتها، لا تتذمر من شروط الحياة، لا تشكي بؤسها، لا تقدم لك أحزانها المأساوية، بل تتحدث باقتضاب ولا تسترسل في الكلام إلا حينما تقبض على مكمن ما يثيرك ويشد انتباهك. حدثتني عن رجال احترمت فيهم مواقفهم والتزامهم بقضايا تخدم شعوبهم، عن نساء يطفحن جمالا يهنن من اجل كسرة خبز معفرة بشتائم داخل معامل بالأحياء الصناعية، وعن أخريات يتحرش بهن منفوخي البطون. وعن أطفال يجوبون الشوارع طولا وعرضا يحتضنون خرقا لزجة يشمونها أحلاما وردية، ويلتحفون السماء بحدائقنا العمومية أو بمدخل العمارات، يحلمون بدفء الأم والأب الغائبين. وعن شباب يتجرع شهادات البطالة، ويحتسي قنينات حارقة لتمنحه وقودا تقيه شر البرد بمداخل مرافئنا حتى يغفل الحراس ليتسلل إلى باخرة تقله إلى بلد الأحلام أو يعود للوطن مجرد جثة هامدة إن لفضها البحر بعدما مل عصي وكلاب السلطة كلما ندد بوضعه الحالك. وعن آخرين ينتشرن في الشواطئ المهجورة يحكن قوارب من مطاط لن توصلهم لبر الأمان. وعن أمهات قضين العمر كله يطرقن أبوابا صماء لاسترجاع الأبناء جثثا يترحمن عليها كل جمعة. وعن الأحلام الوردية التي تقدم لنا وعودا كلما حانت الانتخابات الوهمية. وعن أشياء وأشياء يندى لها الجبين وتعجز الكلمات عن الإفصاح عنها.
كانت جميلة في حكيها، تذرف دمعا حارقا، تشرد لحيظات لتستعيد حكيها، غائصة في هوة بودلير، وشاردة في رحيل رامبو، ومنغرسة في معانات راجع، وممتطية لأحصنة الكنوني، ومختفية في دروب الحي الخلفي لزفزاف، أو تتلهى بنبش عربته، أو تتسكع داخل شقق فاخرة لفنادق كازابلانكا لمحمد صوف، أو تنصت لأشعار وفاء العمراني بمدرجات كلية المحمدية الباردة، أو ترفض مساعدة الزلزال لأحمد بركات، أو تستعيد أيام ساحة ظهر المهراز بحرقة، أوتتعمد بزمن الأخطاء لشكري أو تتماها مع حكايا أمنا فامة المؤجلة.
طفلة في مشيتها، وهي تلاعب خصلات شعرها و تأرجح صاكها وتنظر إلى السماء الضاجة بالنجوم. ذكرتني بطفولتنا البريئة وهي تجري في ساحات مدارسنا المغبرة، تحلم بالمستقبل الجميل، لتكتشف مع تقدم السن أن البلد لا يقدم لهن سوى معامل الخزي أو أحياء الدعارة أو بيت زوج شبيه بمغارة. على رصيف الشاطئ وهي تتابع تموجات انعكاس أعمدة الضوء على سطح الماء وترخي السمع لتلاطم موج البحر مع الصخور المحيطة، تدفقت دمعة على خدها عكست ضوءا خافتا، فاسترسلت في إلقاء جمل شعرية لم أنفلت من طوقها إلا حينما همست في أذني ونحن داخل سيارة الأجرة قائلة: "أجمل ما في هذه المدينة الملعونة ليلها" أجبتها: "لا البحر بحرنا ولا المدنة مدينتنا ولا الليل ليلنا لكن الوطن ملك لنا رغما عنهم".
أفقت متأخرا على أنغام السيمفونية الأولى لفرانز شوبير. كانت أجمل هدية تقدمها لي امرأة انسحبت بهدوء، دون أن تأخذ مستحقاتها.

أحمد باخوص

أجمل ما في هذه المدينة الملعونة ليلها

لا البحر بحرنا ولا المدينة مدينتنا ولا الليل ليلنا لكن الوطن ملك لنا رغما عنهم

أخي باخوص

سرد جميل لأطوار أقصوصة تتبعتها و تجولت بين أزقتها

كم هي الحياة جميلة حين نعيشها بتفاصيلها.........

عدد الرسائل : 3 تاريخ التسجيل : 13/12/2007

رائع رائع رائع .... تستحق التشجيع